أقلام وآراء

نُشر لأول مرة في 8 يونيو 2020 حين يتجدد الخطاب الديني… يتجدد العقل

رائد الاعمال المفكر العربي حسن اسميك…

أعجبني قول أحد المفكرين المتنورين المتخصصين بتجديد الخطاب الديني: إن المعرفة المتعمقة بواقع الخطاب الديني تشترط القدرة على الوصول إلى الخلفية الثقافية التي يحملها صانعو الخطاب. هذه الخلفية تشتمل على معتقداتهم ومبادئهم ورؤيتهم للتحديات والفرص والإمكانات المتاحة، كما تشتمل على الملاحظات والانطباعات والخبرات التي تراكمت لديهم من خلال ممارسة العمل الديني والإصلاحي والتربوي.

 

إن صانعي الخطاب الديني يعتقدون أن لدى الناس قدرة كبيرة على الاستجابة لدعوة الخير، ولهذا لا يعطون أهمية لتطوير خطابهم الديني ولا يدرسون الظروف والأوضاع التي تساعد الناس على الاستجابة. وهم يشعرون غالبًا بالخوف والنفور من الوقوع في مصيدة تعقيدات الإصلاحيين ومجازفاتهم ومناوراتهم، فتكون رؤيتهم محدودة وغائمة وغير واضحة، ويتصف خطابهم بالسطحية والبساطة ويبتعد عن التخطيط والرؤية المستقبلية. وغالبًا ما يعتمدون على الخطاب العاطفي الذي يحقق التأثر السريع، لكنه سرعان ما يزول لأنه لم يؤسس على العقلانية والعمق.

 

الوعي بالخطاب الديني لا يتم من دون الفهم الدقيق لمكوناته وفهم القضايا التي يشتغل عليها والنظم والقوانين التي تحكم المسائل التي يعالجها. وهذا كله يحتاج إلى إثراء البعد الفلسفي في ثقافة الدعاة وعلماء الدين والمصلحين، فالفلسفة هي فن صناعة المفاهيم، وفن وضع التعريفات، وفن كشف العلاقات والتداعيات المنطقية. ولهذا فإن الطابع المباشر الذي يتصف به معظم الخطابات الدينية هو نتيجة طبيعية لافتقارها إلى الاهتمام بالتنظير وفهم الأسباب والنتائج. نحن بحاجة إلى فهم المقاصد التشريعية والسنن الكونية وطبائع الأشياء، ولا سيما الطبيعة البشرية، وإدراك الترابط بين المسائل والقضايا التي نعمل على إصلاحها والنهوض بها. كما أننا بحاجة إلى تحديد المصطلحات التي نستخدمها، وبغير هذا كله لن نستطيع أن نبصر مواقع أقدامنا. وهذا كله بحاجة إلى إثراء البعد الفلسفي لدى رجال الدين، ولا يتحقق الوعي المطلوب للخطاب الديني من غير فهم للنتائج التي يمكن أن نحصل عليها.

 

لقد قاد المسلمون العالم قرونًا طويلة ثم وجدوا أنفسهم يبحثون عن مكان في ذيل الحضارة. وهم يعتقدون أنهم يملكون أفضل نظرية اقتصادية لرخاء العالم، ومع ذلك فإن معظم الشعوب العربية والإسلامية من الفقراء. ومنذ قرن ونصف ونحن نشخص الداء ونصف الدواء، من غير أن نجد تقدمًا في حالة الأمة. وفقدنا روح المبادرة في نشر الوعي وثقافة الإنسانية ونحن ندعي أن ديننا دين عالمي. دين عنوانه “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” انبثقت منه جماعات متطرفة قتلت الناس باسم الدين، وعلى فرضية المؤامرة فإن هذه الجماعات لم تكن لتنجح لولا وجود آذان صاغية من الشباب. كما أن كثيرًا من الشباب تركوا الإيمان والدين ودخلوا في الإلحاد، وتأثرت عقولهم بتيارات فكرية مختلفة، في حين استطاعت الأمم الأخرى أن تؤسس اتحادات تجمعها وتوحدها بينما لا تزال هذه الأمة ممزقة وضعيفة.

 

أنا لا أزعم أن مسؤولية هذه المصائب كلها يتحملها دعاة الدين، أو أنهم السبب المباشر فيها، لكنني أؤكد الحاجة الملحة إلى تجديد الخطاب الديني ليكون على مستوى هذه التحديات، وأن يعتني الدعاة بالبعد الفلسفي الذي يمكنهم من الوقوف على الأسباب وتحليل الواقع ورسم الرؤية الاستراتيجية. والإجابة عن هذه الأسئلة لا تكون بالارتجال أو الخيال، بل بالبحث والحوار وإنتاج المفاهيم التي تلامس المعاني العميقة. وعندما نفعل ذلك سنكتشف قلة بضاعتنا الفكرية، وسنكتشف التصدعات الكثيرة في خطابنا الديني التي ينبغي رأبها.

 

إن خطابنا الديني اليوم يعاني من الانغلاق على الآخر والنفور منه والخوف من الانفتاح عليه. الآخر، سواء كان غربيًا أو علمانيًا أو ليبراليًا أو ملحدًا، لا يجوز ذمه أو ازدراؤه، بل يجب محاورته حوارًا عقليًا ينتج عنه تفاعل يرقى بخطابنا إلى العالمية. المشكلة أن هذا الانغلاق يأخذ بعدًا آخر يتمثل في الخوف على الأتباع من التأثر بالآخر، فيمنعون من قراءته أو محاورته. يسير كثير من دعاة الدين على قاعدة أن الآخر المختلف يشكل خطرًا، لكن الحقيقة أن الآخر جزء من الحل، فالإقصاء جلب العداء، والعداء من خصم قوي جلب مزيدًا من التحديات. أما الحوار فهو الذي يفتح باب التعارف ويبدد الخوف ويقرب المسافات من دون أن يشترط التوافق الكامل. فالاختلاف سنة كونية، والمذموم هو الخلاف لا الاختلاف.

 

التحدي الحقيقي الذي يواجه صناع الخطاب الديني هو غياب النقد الذاتي. فالتجديد يتطلب وعيًا كبيرًا ومسؤولية، ولن نحصل على ذلك إلا بممارسة نقدية حرة وجريئة تكشف الإنجازات والإخفاقات. من المؤسف أننا لا نولي هذه القضية اهتمامًا، إذ ينشغل بعض الدعاة بمديح الذات أو تمجيد الرموز أو الرد على الخصوم، وهذا الضعف لا يبرر بالضغوط، لأن الضغوط اشتدت بسبب ضعفنا. فخير وسيلة لمواجهة الضغوط الخارجية هي تحصين الداخل، أي الكشف عن العيوب ووضع حد للأخطاء المتكررة.

 

من الإشكالات التي يقع فيها الدعاة الخلط بين الولاء والوفاء. الولاء يكون للحق، والوفاء للأستاذ والمعلم، وعندما يتعارضان يكون الولاء للحق أولى. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “اعرف الحق تعرف أهله”. هذا الخلط ناتج عن التقليد الأعمى وإغلاق باب الاجتهاد وتقديس أقوال الفقهاء وعدم قبول مناقشتها، بينما الفقهاء الأوائل كانوا مجددين في زمانهم، لا جامدين. كذلك هناك خلط بين الدعوة إلى الله والدعوة إلى النفس، فبعض الدعاة يحرصون على تكثير الأتباع والمريدين ورفع مكانتهم الشخصية، في حين أن رسالة الدعوة الأصلية هي نشر القيم والمبادئ والرحمة.

 

إن كثيرًا من الدعاة يعلنون أن رسالتهم عالمية، لكن ممارساتهم الواقعية تعمق الانقسام الطائفي، وتزرع الكراهية بدلًا من أن ترسخ الوحدة الوطنية. والداعية الحقيقي يجب أن يكون مثقفًا مطلعًا على مقارنة الأديان والمذاهب الفلسفية والقضايا الفكرية المعاصرة، مدركًا لما تحمله العولمة من إيجابيات وسلبيات، عارفًا بمبادئ الحوار وحوار الحضارات والتيارات المختلفة والعلاقات الدولية والتطرف الديني وأسبابه ونتائجه. ليس بالضرورة أن يتخصص في هذه العلوم، لكن عليه أن يلمّ بها ليخاطب الناس بوعي.

 

إنني لا أعمم هذا الكلام على جميع دعاة الدين، فهناك قامات علمية تُعد قدوة في هذا المجال. لكننا نتحدث عن ظاهرة تستحق المعالجة. ولهذا أدعو إلى إنشاء أكاديميات متخصصة ومراكز تأهيلية في كل بلد تُعنى بتهيئة الدعاة والوعاظ والارتقاء بخطابهم الديني، حتى لا يتصدر الخطاب العام إلا من خضع للتأهيل والتدريب. وإلا سنشهد مزيدًا من عزوف الشباب عن هذا الخطاب، ونجعلهم عرضة لتجاذب التيارات الفكرية المختلفة، خصوصًا في زمن سريع التغير، حيث يسهل التأثير في عقول من لا يملكون حصانة فكرية حقيقية.

نشر في موقع ايلاف 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى